القائد صلاح الدين الأيوبي.. قاهر الصليبيين

القائد صلاح الدين الأيوبي.. قاهر الصليبيين

من رحمة الله بعباده أن يهيئ لهم بين الحين والحين من يظهر في الأوقات الحالكة فينير أمامهم الطريق، ويبعث في قلوبهم الأمل، ويجدد في نفوسهم العزم ويأخذ بأيديهم إلى الغايات العليا، وبطل هذه المرحلة هو مؤسس الدولة الأيوبية قاهر الصليبيين، بعد أن ظنَّ الجميع أنهم لن يخرجوا أبدًا من بلاد الإسلام، هذا البطل شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يقيضه لهذه الأمة ليستكمل مسيرة من قبله من السلاجقة وآل زنكي للتصدي للغزوات الصليبية الحاقدة والحركات الباطنية كالفاطميين، فحمل على عاتقه مسئولية كسر أسطورة الصليبيين، هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادي الملقب بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي.

نشأته وتربيته
اتفق المؤرخون على أن أبا صلاح الدين وأهله من "دوين" وهي بلدة في آخر أذربيجان، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد، ولد صلاح الدين سنة 532هـ بقلعة تكريت، عندما كان أبوه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بها، ثم خرجوا من تكريت وأقاموا عند القائد عماد الدين زنكي بالموصل، ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع، وتأثر بالبيئة العربية بها، وأشرف والده على تربيته، فقد كان نجم الدين أيوب ذا عقل راجح، ورأي سديد وسيرة حسنة، ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، وتعلَّم صلاح الدين من المجاهد نور الدين محمود طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.

صفاته وأخلاقه
هذا القائد الفذ والزعيم الملهم الذي كانت صفاته الشخصية رائعة بدرجة جعلت منه زعيمًا مثاليًّا للأمة الإسلامية، نشأ صلاح الدين نشأةً مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على حفظ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف، وتعلَّم من اللغة ما تعلم، ودرس الفقه والأدب، وتدرب على الفروسية وفنون الحرب، ونما قلبه مفعمًا بحب الجهاد شغوفًا به، وكان صابرًا محتسبًا عند الشدائد والمرض واحتماله خشونة العيش والحياة في خيمة لحبه الجهاد، مع قدرته على أن يعيش في رغدٍ وترفٍ كما كان يفعل الحكام والملوك سواه.

وكان صلاح الدين شجاعًا مجاهدًا تقيًّا ورعًا صابرًا عادلاً, كريمًا سخيًّا, حليمًا, يعفو عند المقدرة قوي النفس شديد البأس، عظيم الثبات لا يخشى العدو، وبلغ من الشجاعة أنه لم يكن يستكثر بالعدو مطلقًا، ولم يستعظم أمرهم قط، وكان مع ذلك دائم التفكير والتدبير، يرتب جنوده وهو هادئ الطبع بدون حدة ولا غضب.

عبادته
يذكر المؤرخون المعاصرون لصلاح الدين أنه كان شديد المواظبة على الصلاة في الجماعة، لا يؤخر صلاة ساعة عن ساعة، حتى في حالات المرض التي ألمَّت به، حيث كان يستدعي إمامًا ليصلي به، وكان رحمه الله حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه، ولا سيما في أوقات الشّدة والمحن، كما كان مواظبًا على أداء السنن، وكان يقوم أجزاء من الليل، كما كان محبًّا لسماع القرآن الكريم مشجعًا على تلاوته، ومحبًّا لسماع الحديث الشريف وتفسيره، وكان خاشع القلب، غزير الدمع، رقيق الإحساس، ناصرًا للتوحيد، قامعًا لأهل البدع، عادلاً محبًّا للعدل والعدالة في كل شيء، كثير الميل إلى الرأفة والرحمة ونصرة الضعفاء على الأقوياء، وكان يجلس للنظر في المظالم يومي الإثنين والخميس، وكان لا يحب الفلاسفة والمعطلة والدهرية ومَن يعاند الشريعة.

بلغت كثرة نفقته في الصدقات أنه أنفق كل ما يملك من أموال ولم يترك في خزائنه عند موته سوى سبعة وأربعين درهمًا فضة، ودينار واحد ذهب، ولم يترك من بعده دارًا أو عقارًا أو أملاكًا أو أرضًا مزروعة أو غير مزروعة، ولم يترك شيئًا من أنواع الأملاك، مما تجب عليه الزكاة، فإنه توسَّع في صدقة النفل، حتى استنفدت الصدقات التي اعتاد أن يوزعها جميع ما لديه من أموال، فلم يترك في خزانته سوى سبعة وأربعين درهمًا، وجرام واحد من الذهب.

ومع أنه كان قد عقد العزم على أداء فريضة الحج في العام الذي توفي فيه إلا أن فراغ يده من المال وانشغاله الدائم بأمر الجهاد ومصلحة العباد أعاقته عن هذه الفريضة.

ويروي المؤرخون أن صلاح الدين كان إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خرَّ ساجدًا لله قائلاً: "إلهي! قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل.

أما الجهاد في سبيل الله فقد كان شغله الشاغل، وقد استولى حبّ الجهاد على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيمًا بحيث ما كان له حديث إلا فيه.

حبه للعلم والعلماء
كان صلاح الدين الأيوبي محبًّا لمجالسة العلماء وأكابر الفقهاء، كما كان يحسن إلى الصوفية كثيرًا ويستشيرهم في كثير من الأمور، يبجل علماءهم ويجلس إليهم ويستمع إلى نصحهم، فوقفوا إلى جانبه في حروبه ضد الصليبين في مواقع كثيرة، وكان يذهب إلى العلماء الذين يرفضون طرق أبواب السلاطين ويتردد عليهم، ومن هؤلاء الحافظ الأصفهاني، وقد شهد المعاصرون لصلاح الدين بأنه استفاد من مشايخ أهل العلم وكبار الفقهاء المعاصرين في تفهم ما استعصى عليه من الأحكام، وكان الشيخ قطب الدين النيسابوري قد جمع له كتابًا في أحكام الدين، فحرص صلاح الدين على تلك المعلومات وأخذ يُعلمها الصغار من أبنائه ويحفظها لهم.

وفي سبيل تحقيق الوحدة السياسية والمعنوية للمسلمين، برهن صلاح الدين على أن التصميم الأخلاقي ووحدة الهدف ووضوح رؤيته يكونان القوة التي يمكن بها التغلب على جميع الصعوبات، وتخطي كل العقبات، وكعادة صلاح الدين بدأ إصلاحاته الداخلية، حيث رفض المذهب الشيعي، وأبطل الدعاء للخليفة الفاطمي، وجعله للخليفة العباسي، واستطاع بذكائه أن ينهي الخلافة الفاطمية في مصر.

وأنشأ المدارس السنية لمقاومة المذهب الشيعي، وأقام المستشفيات، وأتم الاستعدادات وأقام التحصينات، وأخذ يستنفر المسلمين للجهاد، كما ظهر اهتمامه بصناعة الأسلحة، وبناء السفن، وعمل المفرقعات، وتركيب الألغام والمجانيق، وغيرها من أدوات القتال.

مواقف مضيئة
البطل صلاح الدين رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الصليبي، ورمز ارتباط القادة المسلمين بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك، ورمز عدالة الإسلام، فقد حرر القدس بعد أن ذبح المحتلون أكثر من سبعين ألف مسلم في ساحات المسجد الأقصى المبارك، ولمَّا تمكَّن وانتصر عليهم استحضر قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)) (النحل)، فلم ينتقم؛ بل خيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته؛ ليبيّن لكل الدنيا أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات.

ومن مواقفه التي تعبر عن تأسيه بسيدنا عمر بن الخطاب، أنه بعد استلامه لمدينة القدس تفقد مع مرافقيه آثار العدوان الصليبي وشاهدوا التخريب الذي أصاب العمائر الإسلامية، وخاصةً المسجد الأقصى مما حدا ببعض مرافقيه، والذي استبد الغضب والسخط عليهم لِما شاهدوه من تخريب فاقترحوا على صلاح الدين هدم كنيسة القيامة حتى يحولوا بين الصليبيين وزيارتها، ولكن صلاح الدين أبى والتزم بسياسة سيدنا عمر بن الخطاب حين استلم القدس وحافظ على كنيسة القيامة، ورد صلاح الدين على أولئك المطالبين بهدم كنيسة القيامة قائلاً: إنه لا يستطيع أن يخالف أمرًا أقرَّه الخليفة عمر بن الخطاب بهذا المكان المسيحي المقدس.

أما موقفه مع ريتشارد ملك إنجلترا فيعبر عن سماحة لا يدانيها فيها، وهذا الموقف حرَّك وجدان الأدباء من الأوروبيين وجعلتهم يصيغون حولها الأساطير التي تهدف لإثارة المثل العليا في ضمائر الناس.

تحرير بيت المقدس من الصليبيين
تعتبر الفترة التي تولى فيها صلاح الدين الأيوبي مسئولية الجهاد ضد الصليبيين من أهم مراحل تاريخ منطقة الشرق الأدنى في العصور الوسطى، وبالتالي أهم مراحل تاريخ العلاقات بين المشرق الإسلامي والغرب المسيحي؛ لأن الجبهة الإسلامية الموحدة لم تصبح حقيقة واقعة إلا على يد صلاح الدين، ولذلك أصبح لزامًا عليه أن يضع الخطة العامة لطرد الصليبيين من بلدان المشرق الإسلامي.

وكانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت له بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية، وكان من كلامه: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!.

وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583هـ، يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية، نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلاً عظيمًا، ونصر الله الإسلام على يده نصرًا عزيزًا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492هـ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وقد عبر ابن الأثير عن هول هذه المعركة وضراوتها بقوله: وكثر القتل والأسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أن هناك أسرى، ومن يرى الأسرى لا يظن أن هناك قتلى"، وقد مر ابن الأثير بمكان الموقعة بعد سنة فرأى الأرض ملأى بعظامهم ترى من بعيد لكثرتها، منها المتجمع بعضه على بعض، ومنها ما جرفته السيول وأكلته السباع في الركام والوديان.

عمارة المسجد الأقصى
من المعروف تاريخيًّا أن الصليبيين أنزلوا بالمسجد الأقصى والعمائر الإسلامية في بيت المقدس الكثير من معالم الطمس والتشويه والإضرار؛ وذلك على امتداد 90 عامًا تبدأ باحتلالهم القدس سنة 493هـ/1099م وتنتهي سنة 583هـ/1187م؛ حيث تم تحرير القدس في حطين، وعندما استرد صلاح الدين بيت المقدس أمر بإصلاح العمائر الإسلامية في القدس، واعتبر ذلك صفحةً مشرقةً في جهاده الرائع والخالد ليس في ميدان دحر العدوان فحسب بل في ميدان إزالة آثار هذا العدوان على بيت المقدس.

 وأول إصلاح قام به صلاح الدين بالمسجد الأقصى هو إعادة شعائر الصلاة بالمسجد، فأقيمت به صلاة الجمعة الموافقة 4 شعبان سنة 583هـ/19 أكتوبر 1187م، ثم أمر بسرعة إزالة التعديات المعمارية التي أنزلها الصليبيون بالمسجد الأقصى؛ وذلك بهدم الحوائط الداخلية التي أقاموها لإخفاء معالم هذا المسجد بخاصة المحراب الرئيسي، وتابع صلاح الدين تجديد المسجد وإضفاء الجلال والجمال على مساحته، وشمل التجديد نقل المنبر الذي كان السلطان نور الدين محمود قد أعده للمسجد سنة 564هـ/1168م، وكان من أجمل المنابر وأدقها صناعة ووضعه صلاح الدين على يمين المحراب، وظل في مكانه إلى أن أحرق على يد اليهود عند حرقهم للمسجد في 21 أغسطس سنة 1969م.

وتابع صلاح الدين تجديد المسجد الأقصى وشمل التجديد الحياة العلمية له بتزويده بالفقهاء والعلماء والكتب والمصاحف، وبدأت الزيارات لجمهور المسلمين للمسجد، فيذكر السيوطي: "هرع الناس من كل صوب إلى المسجد الأقصى ومن كل فج عميق وسلكوا إليه في كل طريق وتوافد الراكع والساجد والخاشع والحاكم والشاهد والجاهد والمجاهد والقايم والقاعد".

 كما أولى صلاح الدين عناية أيضًا بمسجد قبة الصخرة، وبادر بتجديده، حيث كشف عن الصخرة التي أخفاها الصليبيون يكسوها بالرخام، فأمر بإزالة الرخام حتى عادت الصخرة إلى وضعها الأصلي وأزال ما بها من صور وتماثيل ونظفت من الصلبان، والرهبان والخنازير، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر وبماء الورد، فيذكر السيوطي: "أمر السلطان بكشف نقابها ورفع حجابها وحسر لثامها وكسر رخامها فعادت كما كانت في الزمن القديم واستجلى الناظرون وجه حسنها الوسيم".

 وشملت عمارة صلاح الدين الأسوار والعمارة الحربية ولكن المجال لا يتسع لذكرها.

قالوا عنه
يقول القاضي بهاء الدين بن شداد واصفًا صلاح الدين: "كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال"، وقال أيضًا: "وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعامًا ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئًا يسيرًا لفرط اهتمامه".

وفاة صلاح الدين
بعد صلح الرملة رجع صلاح الدين عائدًا إلى دمشق حيث مرض بها وتوفي فيها ودفن بها يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر صفر عام 589 هـ/1193م وكان عمره سبعًا وخمسين سنة بعد أن دام حكمه لمصر خمسة وعشرين عامًا، قضى معظمها في الجهاد والسعي لتحرير الأوطان، رحم الله صلاح الدين الأيوبي وكل مَن يعمل لتحرير البلاد الإسلامية والأماكن المقدسة
ولعودة العزة والقيادة الإسلامية.


خاتمة المطاف
إن استقراء التاريخ لأمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف، ليسير على طريق الخلف، ولنعلم كيف أُعيدت القدس أولاً، لنعمل بنفس الطريقة على إعادتها ثانيًا، وهو ما أردناه من استهدافنا لعرض سيرة الناصر صلاح الدين، ليعرف الناس مَن هو البطل الفارس المسلم صاحب المبادئ والمثل العليا، إن سيرة صلاح الدين تحرك بواعث الأمل في النفوس، فقد انتصر قديمًا في وقت كان المسلمون فيه أشبه بوقتنا هذا، كانوا شراذم متنافرة متناحرة، وعلى الرغم من ذلك تمكن صلاح الدين من أن يعيد للأمة وحدتها وقوتها، ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى قيادة واعية تأخذ بأيدينا إلى الغايات العليا والآمال القصوى، فهل للمسلمين من صلاح جديد يُصلح الدنيا بالدين، ويجدِّد للناس دينهم؟! نسأل الله ذلك.

قاد صلاح الدين ثورة الخلاص ضد الدولة الفاطمية الشيعية التي أفسدت العقائد ونشرت البدع التي نعاني منها حتى اليوم، وأقام دولة الحق والعدل. 

منقول

تعليقات فيس بوك
0 تعليقات بلوجر

0 التعليقات:

إرسال تعليق